تُشّكل الموسيقى والأغنية الشعبية مساحة سردية خاصة بما فيها من تورية وبوح، نجد فيها رصداّ لسردية معينة تمت صياغتها بشكل تراكمي، تتحور وتتبدل معانيه بتبدّل وتحوّر علاقتنا مع المكان، وآليات الإنتاج، وتبعاً لمزاج الناس، إن شاؤوا، اختيار هذه الأغنية وإعادة سردها والتفاعل معها كجزء من طرحهم لهويتهم والتعبير عنها.
يهدف المشروع إلى تقديم قراءة للموسيقى الحورانيّة وعلاقتها بالواقع والسياق السياسيّ، ودراسة مدى تأثّرها وأثرها بالأنماط المعيشيّة الناتجة عن الأنظمة الاقتصاديّة المرتبطة بالمجتمعات الزراعيّة (الفلاحيّة) والأرض كأساس للوجود والعيش، واستكشاف ارتباط هذه الموسيقى بالممارسات الاجتماعيّة المختلفة، مثل الفرح والحزن والرثاء... واستخدامها كأداة للتمثيل والتعبير عن منظومة فكريّة وثقافيّة معيّنة في فترة زمنيّة ذات سرديّة محدّدة. عند التفكير في الموسيقى الحورانيّة المرتبطة بجغرافية حوران المتعارف عليها تاريخيّاً، والممتدّة على شكل حدود متداخلة ما بين هضبة الجولان وعلى طول غور الأردن مروراً بجبال عجلون حتّى الصحراء الشرقيّة في سوريا والأردن وجبل العرب (جبل الدروز) وصولاً إلى جنوب دمشق، تظهر السرديّة الاستعماريّة بوضوح، حيث يسعى هذا المشروع/ البحث إلى تفكيك السرديّة الاستعماريّة الطاغية التى حاولت أن تفصل هذه المنطقة ذات الإيكولوجيا والطبيعة المتناغمة والتي عملت – ومازالت تعمل - على تقسيم مجتمعاتنا والتعامل معها كأرقام، وتجريدها ورسم حدود وهميّة لها، وتقسيمها ما بين ثلاث دول، متجاهلة كلّ التقارب الهائل بين سكّان وأهل المنطقة، والعوامل المشتركة والأنساب المتداخلة والتاريخ وسبل العيش التي تضمّهم. بالإضافة إلى طرح تساؤلات حول تأثير سياسات الدولة الوطنيّة والسلطات على حلقات الإنتاج الفنّي الشعبيّ وعلى محتواه، من لحن وكلام، لجعله أكثر ملائمة للاستهلاك، وبالتالي الترويج لروايات وسرديّات السلطة نفسها. وكيف قامت هذه الدول في مرحلة لاحقة بحصر هويّات سكّانها بهويّات أحاديّة ذات شكل واحد، وضخّت أموالاً هائلة في القطاعات الفنيّة والثقافيّة للترويج لهذه الهويات، بدلاً من أن تكون هويّات جامعة تحمل في ثناياها كافّة أطياف المجتمع على اختلافهم. ويتطرق المشروع للبحث في أنماط تَغيُّر هذه الموسيقى وطرق إنتاجها في الوقت الحاليّ، مقارنة بالسابق، بدءًا من تأليف الفلاّحين والمزارعين كأفراد ومجموعات للكلمات والألحان، انتقالاً إلى دخول الآلات الموسيقيّة المختلفة، كالأورغ بدلاً من الآلات النفخيّة والإيقاعيّة مثل المجوز واليرغول، ممّا أدّى إلى نقل وتحويل عمليّة الإنتاج من غرف البيوت والحقول إلى الاستديوهات المغلقة، وتحوّلها من موسيقى عفويّة عضويّة تنتشر بشكل تلقائيّ ارتجاليّ إلى مشروع إنتاجيّ ضمن هياكل واضحة ومخطّطة مسبقاً.
وانطلاقاً من أن هذا النوع من الموسيقى قد خرج بشكل أساسيّ ليعبّر عن حياة المزارعين والفلّاحين والبدو وكلّ من له علاقة وثيقة بالأرض، وينظر إليها لا كمصدر فحسب، وإنّما كشريك يضمن له استمراريّة الحياة، ترى مرجي أن هذا النمط الموسيقىّ يشمل وبشكل توثيقيّ جغرافيات منطقة حوران المتعدّدة من سهول وجبال وينابيع وصحاري، ويركّز بشكل أساسيّ على مواضيع متعلّقة بسبل الحياة جميعها، كعلاقة أهلها بالبناء وجمع الماء وحصاد القمح والعلاقات الانسانيّة وغير ذلك. يسعى المشروع أيضاً لتقديم قراءة جندريّة وطبقيّة، مع مراعاة دقيقة للسياق، ليحفز على التفكير بعلاقة تنوّع الشكل الموسيقيّ واختلافه باختلاف المشاركين بأدائه. وأخيراً سيقوم المشروع بدراسة الطريقة التي أثّرت فيها هذه الموسيقى على تشكيل مساحات مختلفة للتكافل والتواجد معًا – على الصعيد الشخصيّ والإنسانيّ – والبعيدة كلّ البعد عن المنطق الرأسماليّ السائد والقائم على مبادئ الاستخراج لا المشاركة.