بعد الاختيار الأخير لفيلمها من ضمن لائحة مهرجان كان السينمائي 2020، تكشف المُخرجة آيتن أمين في هذه المُقابلة عن خبايا فيلمها الأخير "سعاد"، الذي شكّل نافذةً حقيقية على الحياة الاجتماعية الواقعية للنساء في مناطق مصر المُهمّشة.
هلا حدثتِنا عن كيفية بدء رحلتك مع إخراج الأفلام؟ وكيف بدأت مهنتك كمُحاسبة، ومن ثم تركت كُل شيء سعياً وراء حُلمك؟
تخرجت من الجامعة من كُلية التجارة، بدأت العمل في بنك لأن والدي كان مصرفياً. لطالما كُنتُ مُهتمةً بالسينما، غير أني لم أتمكن من السعي وراء حُلمي. لم أعرف أحداً يعمل في مجال السينما، حتى أني لم أُتقدّم لدراستها في الجامعة.
العمل في مصرفٍ مُنذ سنّ العشرين كان أمراً مُملاً جداً وجعلني أشعر بالتعاسة. بدأت أحضر ورشات عمل في النقد السينمائي، حتى علمت ببرنامج يمنح شهادة الدبلوم في الإخراج، فأقدمت على التسجيل هناك. عندما بدأنا نتعلم، كان هناك ثلاثة مستويات علينا إتمامها قبل البدء بالتخصص. في المستوى الأول، طُلب منّا مشروع فيلم، عندئذٍ علمت أن هذا تحديداً ما أرغب القيام به، ألا وهو إخراج الأفلام. كوني شخصية انطوائية لا تحب الكلام كثيراً، وجدت أن هذه أفضل طريقة لإيصال مشاعري من دون الاضطرار إلى التواصل بالكلام. أخرجت فيلم "رجُلُها" عام 2006، كمشروع تخرجي، والمُقتبس من رواية للأديبة أهداف سويف. كان فيلمي القصير الأول كمُخرجةٍ شابة، لذا كان في بعض جوانبه بدائياً، بالرغم من ذلك كان جيداً، ومن ثم ذهبت إلى مهرجان كليرمون فيران السينمائي الدولي للأفلام القصيرة. بعد فترةٍ وجيزة من ذلك، وتحديداً في نيسان/إبريل 2007، تركت العمل في المصرف. كُنت بذلك أُحقق جُزءاً من حُلمي.
فيلمك الأخير "سُعاد"، يخوض في الحياة السرية المزدوجة للنساء الشابات في مصر في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال قصة فتاة في الثانية عشرة من عمرها وشقيقتها، تعيشان في منطقة دلتا النيل في مصر. ما الذي دفعك إلى الكشف عن مُتلازمة ازدواجية الحياة تلك، وتأثير هذه العوالم الافتراضية على هذا الجيل الجديد؟
الكاتب الذي شاركني الكتابة، محمود عزّت، كان شخصية ناشطة على وسائل التواصل خلال الثورة وما بعدها. كانت تُتابعه عشرات الفتيات من المناطق الريفية في مصر. كُنت مُهتمةً جداً بتلك الفتيات اللواتي جئن من قُرى صغيرة. أنا من النوع الذي يستطيع الجلوس لساعات في مُتابعة وسائل التواصل الاجتماعي وتتبع أشخاص لا أعرفهم لأجل بحثي. كما أنّني مهتمةٌ جداً على سبيل المثال بالفتيات اللواتي يعرضن صوراً غير صورهنّ، أو اللواتي يُشرن إلى أنفسهن على أنهنّ "أميرات الصحراء" أو "مُحطمات القلوب"... كانت فكرة قصة الفيلم حاضرةً في ذهني، وكُنت مُهتمةً جداً بالعلاقات الافتراضية. هذه العلاقات تُغيرنا كبشر. بدأت التحدث مع مُحمود الذي أخبرني عن هاتين الفتاتين اللتين أرسلتا له الرسائل من الأرياف، وأطلعني على الحوارات المُرسلة إليه بالإضافة إلى شخصيات ناشطة أُخرى من ضمن دائرة معارفه، الأمر الذي أثار اهتمامي كثيراً. بدأنا نُعالج بعض المُتابعين، بمن فيهم فتيات من منطقة الزقازيق وطنطة وغيرها من المُدن، واستمرت عملية الاختيار مُدة طويلة قاربت السنتين، بين 2015 و2017. الهدف من عملية الاختيار تلك كان العثور على مُمثلين. كُنّا نتحدث إلى فتيات من خارج العاصمة القاهرة، عن حياتهنّ التي أثارت اهتمامي إلى حدٍ كبير. لم يكن لدى هذه الفتيات أي صوتٍ على الإطلاق، لا في السينما ولا في التلفزيون ولا في أي مكان آخر. فعلياً لم يتحدث أحد عنهنّ أبداً.
جرى تنظيم عملية اختيار المُمثلات خارج القاهرة. قابلت 250 فتاة من مُدن مُختلفة من أنحاء مصر. كُنت أتطلع إلى فتيات يرتقين بالشخصيات نحو بُعدٍ آخر، وذلك من خلال مُعايشتهنّ لحياة مُشابهة لحياة الشخصيات اليومية. والفتيات اللواتي اخترتهنّ طابقن تلك المواصفات، وهناك الكثير من التفاصيل في الفيلم التي أعزوها لهنّ، ولقصصهنّ. أمضينا 5 أشهر في البروفات، وفي خلال تلك الفترة الزمنية لم تقرأ الفتيات النص أبداً. بل كُنت أشرح الإطار العام للمشهد، وكُنّا نُصور بعدها. بهذه الطريقة، كُنّ يقلن أشياء ويخرجن بأفكار للمشاهد بأنفسهنّ. كانت خبرةً عضوية، مُرتبطة باكتشافي لعالم هذه الفتيات ووسائل التواصل الاجتماعي، وباكتشافهنّ لأنفسهن أيضاً. كان هناك نص، بيد أني طوّعته ليتمحور حولهنّ. خلال التصوير، كان يذكر محمود عزّت مشهداً، غير أن الفتيات كُنّ يؤدينه من دون نص، تماماً كما في فيلم وثائقي، بأُسلوبٍ واقعيّ جداً. حفظت الفتيات الشخصيات عن ظهر قلب، وفهمنها كاملةً، لذا سار العمل بشكل سلس جداً.
مثلاً مشهد المكياج، المشهد الذي أُخذت منه الصورة التي خُصصت بمُلصق الفيلم، لم يكن مكتوباً في النص. كان محمود يقترح بأن نُصور مشهداً تأخذ فيه الفتاة الأصغر صورةً لشقيقتها الأكبر سناً، وكُنّا على السطح، واقترحتُ أنا أن نلتقط مشهداً لإحدى الشقيقتين تضع المكياج الواحدة للأخرى. التقطنا المشاهد كما في الأفلام الوثائقية. سارت حركات الفتاتين وقيامهما بكُل شيء على نحو طبيعي.
صُوّر الفيلم في المناطق الريفية من مصر (دلتا النيل). عملية اختيار الشخصيات بحد ذاتها جرت في تلك المُدن الريفية. هل واجهتم أية تحديات خلال عملية التصوير؟
عملية اختيار المُمثلين جرت مع أُناس كثيرين، بما أني لم أشأ أن يكون فيلمي مع مُمثلين مُحترفين. كان من المُفترض بأن يكون مُمثل شخصية الشاب الرئيسية مُحترفاً، بيد أني عندما بدأت بتصوير الجزء الأول، لم يتوفر المُمثل الرئيسي للجزء الثاني. لذا بدأنا نبحث عن شخص لم يُمثّل أبداً من قبل. في نهاية المطاف عثرنا على الشخصية الرئيسية. كان صديقاً للمُنتج سامح عواد. شخصٌ كان يعمل في مصرف، ولم تكن له أية علاقة بالتمثيل.
هذا الإصرار على اختيار مُمثلين غير مُحترفين، هل كان موجوداً منذ بداية اشتغالك على النص؟
كان موجوداً مُنذ البداية. كان طموحي تصوير الفيلم على غرار الأفلام الوثائقية، بالرغم من أني لم أخض تلك التجربة من قبل، غير أن الرغبة العامة في روحية هذا الفيلم ذهبت بهذا الاتجاه. شعرت أن الجزء الجوهري من الفيلم يتطلب إجراء عملية اختيار المُمثلين من الناس العاديين المُقربين من الشخصيات، بهدف القيام بالاكتشاف معهم عوضاً عن قراءة النص وتصوير المشاهد وفقاً لذلك. أثناء عملنا على الفيلم، انتهى بي المطاف إلى أن أعرف كُل شيء عن الفتيات لنُصبح بعدها أصدقاء. لديهنّ حياتهنّ، وعلاقاتهنّ على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي كان مُغايراً تماماً بالنسبة لي عندما كُنت في عُمرهنّ (عندما لم تكن تلك العلاقات الافتراضية موجودةً، وهذا الانكشاف، والإنستاغرام الخ... لم يكن موجوداً حتى). حتى رباب (الشقيقة الصغرى) لديها الحماسة للتحدث مع الناس على إنستاغرام. باختصار فإن اكتشاف هذا العالم كان جزءاً حيوياً من الفيلم.
لم يكن الهدف القيام ببحث، بل إخراج الفيلم والمُضي قُدُماً، حيث أن هناك أشياء لا أستطيع شخصياً كتابتها بنفسي، وأشياء ما كُنت لأختبرها بنفسي أبداً. كُنت أرغب في الوصول إلى تلك الأصالة. لهذا السبب استغرقت عملية اختيار المُمثلين تلك المُدة الطويلة، وقد التقينا الكثير من الفتيات بينما كُنّا نبحث عن أربع فتيات فقط(شخصيتان رئيسيتان وصديقتاهما). كانت هناك فتاة أعجبتني كثيراً، غير أنها خُطبت، وقالت لي بأن خطيبها لا يوافق على ما نفعل- الأمر الذي توافق تماماً مع روحية بيئة الفيلم، بطريقة أو بأُخرى. استمرينا في غربلة الـ250 فتاةً، حتى وصلنا إلى مجموعتين من فتاتين. بمعنى آخر كان لديّ خياران لكُلٍ من سُعاد ورباب.
أذكر تماماً السبب وراء اختياري للفتاة التي لعبت دور رباب. لم تكن شخصية رباب مكتوبةً في النص على هذا النحو في الأصل، كانت أكثر براءةً. في الواقع، الفتاة التي لعبت دور رباب كانت فعلياً أكثر ذكاءً من رؤيتنا لها أثناء كتابة النص. أذكر تمامًا أثناء تجربة الأداء، كان مُساعد المُخرج يجلس بجانبها ويقرأ النص، بينما يُحرّك ساقيه بعصبيةٍ محمومة. نظرت إليه الفتاة ذات الثمانية عشرة عاماً وهو يقرأ قائلة: "ساقاك"، فسألها "ماذا؟"، فاستطردت قائلة: "لا تحركهما". لقد أثارت إعجابي، بشخصيتها القوية.
كذلك فإن هناك جاذبية خفية غير مُحددة بين رباب وأحمد (شخصية الشاب الرئيسية في الفيلم). لم يكن ذلك مذكوراً في النص أيضاً، على الرغم من ذلك كان لديّ ذلك الإحساس بأنه لا بُدّ وأن يكون هنالك شيء بين هذين الاثنين، تحت السطح، ما هو غير محكيّ، مُتعلقٌ بسنين مُراهقة سُعاد، وبحقيقة أن أحمد، وبالنسبة لرباب، بدا وسيماً وينتمي لعالم آخر وبرغبتها في اكتشاف غموضه.
أُعلن مؤخراً عن فيلم "سعاد" ضمن قائمة مهرجان "كان" الرسمية لهذا العام. يجدر الذكر بأن المُمثلين بمُعظمهم هُم من النساء، وكذلك طاقم العاملين على الفيلم. ما هو رأيك بذلك؟ وكيف من وجهة نظرك، يُمكن الفيلم، من خلال تسليطه الضوء على واقع مجحف تعيشه النساء، أن يُساهم في تغيير العقلية الحالية السائدة تجاه النساء؟
إنه أمرٌ أطمح إليه، ألا وهو أن يتمكن فيلم ما من إحداث تغيير. بالتعقيب على حقيقة أن الطاقم يتألف بمعظمه من نساء، عليّ القول بأن المُنتجة دره بوشوشه كانت شخصاً متعاوناً جداً بالنسبة لي. عندما قرأت النص للمرة الأولى، وعملنا عليه في ورشة عمل الكتابة "سود إكريتور"، التي أشرفت عليها، مكنتني ومنحتني الثقة. كُنت أشعر ببعض من عدم الأمان حيث أني تلقيت الرفض من كُل الجهات لفيلمي، بيد أنها وثقت بالفيلم وبي. لم أكن أعرفها قبل حضوري ورشة العمل. كانت مُستعدة لأن تكون مُنتجة للفيلم ولدعم المشروع، بينما لم يكن هناك أحدٌ غيرها. لقد دفعتني أنا وفيلم "سُعاد" للأمام.
حقيقة أن شخصيات الفيلم وطاقم عمله كانوا بمعظمهم من النساء أضفت على العمل برمته أجواء حميميةٍ جداً. لم تكن هناك موانع، الفتيات كُنّ يتحدثنّ ويُمثلنّ بشكل طبيعي. علاوةً على ذلك، نشأت بيننا رابطة. خارج نطاق عملية التصوير، كُنّا نلتقي ونخرج معاً. المُصممة المُساعدة، والتي كانت في السادسة عشرة من عمرها، أصبحت صديقةً لرباب، كانتا تمضيان الوقت معاً في الاستراحات بين جلسات التصوير. كانت هناك مُتعةٌ شاملة وأجواء حميمية بالمُجمل.
السينما مهنةٌ صعبة بالمجمل، فما بالك للنساء، إنها بالتأكيد أصعب، وفي مصر تحديداً. أعمل في هذا القطاع مُنذ وقت طويل، بيد أني ومع كُل فيلم أشعر أنني أبدأ من الصفر مُجدداً، وكأن كُل فيلم هو مشروعي الأول. المُنتجون لا يثقون بمُخرجةٍ امرأة بالرغم من أعمالها السابقة. لقد أخرجت مُسلسلاً تلفزيونياً مع (نادين خان) و(هبة يُسري)، قبل فيلم "سُعاد" الذي حقق نجاحاً كبيراً. بناءً على ذلك، افترض الجميع أن مشروع فيلم "سُعاد" سيكون سلساً.
ولكن على العكس تماماً، كان أصعب بكثير خاصة على مستوى التمويل. لم يشأ أحد الاستثمار في الفيلم. انطلق العمل على الفيلم عندما قرر صديق قديم لي، لا ينتمي أبداً إلى مجال صناعة الأفلام غير أنه كان مُهتماً جداً بالفيلم، أن يستثمر فيه. إضافةً إليه، تلقى مشروع الفيلم دعماً تطويرياً من مهرجان الجونة السينمائي. خلافاً لذلك كان ليستغرق تمويل الفيلم زمناً طويلاً جداً.
إني متيقنة وواثقة، من أنه لو كان المُخرج رجلاً لما حدث كُل هذا. كإمرأة مُخرجة، أشعر أني بحاجة لأن أُثبت نفسي طوال الوقت، قبل أن أحظى بثقة المُستثمرين/ المُنتجين، في كُل مرةٍ.
فعلياً آمل بأن تُسهّل مشاركة الفيلم في مهرجان كان السينمائي عملية المُضي قُدُماً، خاصةً في ما يتعلق بعملية توزيع الفيلم.
ما هي خُططك فيما يتعلق بالعرض الأول للفيلم وعملية توزيعه؟
لم يجرِ تأكيد شيء بعد فيما يتعلق بالمكان الفعلي الذي سنقوم فيه بالعرض الأول، سنعرف ذلك قريباً. العرض الأول المصري سيكون في "مهرجان الجونة السينمائي"، شريطة أن يُقام المهرجان فعلياً.
فيما يتعلق بالمبيعات، فإننا نقوم بالنقاشات والمفاوضات مع عدة أطراف.
هل تودين التحدث عن أية أفكار أُخرى؟
أودّ أن أشير إلى أنني أُعاني من مُشكلةٍ حقيقية لجهة التصنيف. ففي أوساط السينما التجارية، يُنظر إليّ على أني مُخرجة مُستقلة، بينما في أوساط السينما المستقلة، يُنظر إليّ كمُخرجة تجارية. لهذا أشعر أني دخيلة طوال الوقت. هناك ميلٌ لتصنيف عمل المُخرجين. أمّا بالنسبة إلي، فإنني أفعل ما يُثير اهتمامي، أود إخراج الأفلام الفنية التي أُريد، وفي الوقت نفسه العمل على المُسلسلات التلفزيونية التي تروق لي فنياً. لا يُعجبني هذا التصنيف في صناعة الأفلام خاصة في مصر، الأمر الذي يُقيدني ضمن إطار مُعين ويحدُّ من العملية الإبداعية. أعتقد بوجوب وجود حُرية وسهولة في قيام أحدهم بما يشعر به ويروق له. بالنسبة إلي، ما من فارق بين الإثنين، شريطة أن يكون شيئاً أؤمن به.