خيوط التواصل: نسج روايات جماعية في الشتات
10 / 6 / 2024

يتبادل المصوران السوريان أمين أبو قاسم وسارة القنطار، الحائزان على منحة زمالة خريجي برنامج التصوير الفوتوغرافي الوثائقي العربي للعام 2024، الرسائل المصوّرة منذ عام 2020. وفي هذه المقابلة، يكشفان عن قوة التصوير الفوتوغرافي في التقاط لحظات الحقيقة، وفي جمع الناس معاً.

نبذة عن المشروع
يتنقل سارة وأمين، وهما راويان بصريان نازحان، بين تعقيدات الوطن والمنفى واكتشاف الذات، بحثاً عن أرضية مشتركة من خلال تبادل الرسائل المصوّرة. تتكشف رحلتهما بين سوريا والشتات، متجاوزين الحدود.


آفاق: يمثل مشروع "أغنيتان من الشتات" ثمرة تعاونكما الذي بدأ قبل سنوات، في 2020، بتبادل الرسائل المصوّرة. لماذا بدأ هذا التعاون؟

    سارة: بدأت التصوير منذ زمن، لكنّني عندما بدأت نشر ومشاركة صوري سنة 2020، لاحظت أنّ هناك أيضاً مصوّرين سوريين آخرين، خصوصاً على إنستغرام. قبلها، كنت أشعر أنني منقطعة عن أي مجتمع لفنانين سوريين. ولهذا بدأت البحث عن أيّ مساحات أو حسابات تنشر لمصوّرين أعمالًا لهم. هذه المساحات كانت قليلة ونادرة، وكانت تركّز على الحرب أو تقدّم صوراً نمطيّة معيّنة. بعد سنة تقريباً، قررت إنشاء حساب "ل-عيون" على إنستغرام كي يكون مساحة لجمع ونشر أعمال المصورين السوريين.

    بهذه الطريقة تعرّفت إلى مصوّرين كثر، ومنهم أمين. عندما بدأنا بالتحدّث، اكتشفنا حالة مشتركة لها علاقة بنوع من الغربة. ورغم عيشي في الخارج بينما يعيش هو في الداخل، كان يقول لي خلال أحاديثنا إنه "حتى هنا نشعر بالغربة". اكتشفنا مواضيع مشتركة وعملنا عليها. كنا نتبادل الصور لتدور حولها أحاديث طويلة، وهكذا وجدنا أحلاماً مشتركة أيضاً.

    أمين: على الجانب الآخر مما تقوله سارة، هناك شحّ في هذا النوع من التصوير الوثائقي في الشام. الأكثر تداولاً في سوريا هو الصور التجارية، البورتريهات والأعراس، وكنّا نشعر أن عدد المصورين المماثلين لنا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. كان هذا في 2020 في أيّام كورونا. كنّا، كما قالت سارة، نتواصل مع بعض أكثر لأنّنا كنا، وقت الإغلاق في كورونا، كأنّنا في علبة مقفلة لا تسمح للناس بالدخول. ولهذا كان تواصلنا المستمر بمثابة باب للخروج من هذا.

آفاق: أسفر تعاونكما عن تأسيس شبكة "ل-عيون". كيف يساهم العمل مع مجموعة تضم مصورين/ات سوريين/ات آخرين/ات في سوريا والمهجر في تحقيق رؤيتكما ورؤية المجموعة؟

    سارة: "ل-عيون" بدأت من رغبة في التواصل. أنشأت صفحة إنستغرام في شهر نيسان/أبريل 2021، وبدأت ألتقي الناس افتراضيا وأولّهم أمين، ثم مصورين آخرين متل حسن بلال ومحمد نمّور وريى ابو محمود وياسين صاغة و غيرهم. في البداية، لم يكن هناك الكثير، لكن مع الوقت زاد عدد المصورين. لم يكن الهدف تأسيس مشروع كبير، وإنما كان حول كيفية المساعدة والتواصل مع بعض.. بدأنا تنظيم فعاليات ومحاولة إقامة معارض صغيرة ثم قررنا ايضا اضافة قسم للسينما تقوم بتأسيسه ديالا الهنداوي و نظمنا عروض أفلام قصيرة. ونحاول حالياً العمل على تأسيس شبكة مشتركة.

    أمين: سارة هي مؤسِّسة "ل-عيون"، وانضممت أنا لها في وقت لاحق. الفكرة كانت حول خلق مساحة للمشاركة. نحن نمتلك القدرة على العمل الجماعي، أن نجلس على طاولة ونحكي. "ل-عيون" من الفنانين إلى المجتمع بكامله. بالنسبة لي، هذا العمل يمثّل مرحلة تاريخية مهمة لجانب لا يهتم أحد بتوثيقه، في وقت يدفع العالم أموالاً طائلة لكي يختاروا ما يريدون توثيقه من التاريخ. العيون البسيطة التي تمشي في الشام من خلال هواتفها، هذه هي الصورة الحقيقية للذاكرة الجماعية، وهذه هي الصورة التي نريد توثيقها. صحيح أن الخطوة متأخرة، ولكنها محاولة للملمة ما تبقى وإعطاء حافز لمن بقي حتى يستمر في القيام بهذا العمل المهم جداً. الخوف الحقيقي هو أن تُمحى هذه الصورة بشكل تام ولا يتبقى أي أحد ليحكي.

    "ل-عيون" كانت مشروعاً صغيراً، كما قالت سارة، يمكننا عبره مساعدة بعضنا البعض. نتواصل من هنا، ونرسل لبعضنا منحاً وفرصاً وغيرها. ما حصل هو نقطة تحوّل. ما لم تذكره سارة هو أنها شاركت بتنظيم فعالية وقت الزلزال في سوريا وتركيا، لتقديم مساعدات مالية لدعم هؤلاء الضحايا. جمعنا الأموال من عملنا في وقت كنا نشعر أنه لا يمكننا أن نفعل أكثر، إلا أننا وقتها شعرنا بالتفاعل بين الناس الذين تلقوا الصور. حين تكلمت معهم، أجمع كل المصورين المشاركين في فعاليات "ل-عيون" من سوريا وخارجها أنهم شعروا بأمور لم يشعروا بها من قبل، لم يكونوا يحلمون أن تأتي ناس من كلّ العالم لرؤية صورهم معلّقة.

    هذه الأمور كانت حلماً حقيقياً. مثلًا، أنا أستطيع الآن أن أذهب إلى غاليري في لبنان وأطرح مشروعاً، أمر سهل. إنما هذا أمر ضرب من الخيال في الشام لأنه غير موجود. فبداية التواصل مع العالم الخارجي وعمل شيء ملموس على الأرض كان هو الجوهر الأساسي في هذا المشروع. في الوقت نفسه، هناك ما يشبه اللعنة على السوريين -علماً أنني فلسطيني عشت في سوريا- فنحن نقول أموراً غير مفهومة للعموم لوصف مشاعر مشتركة مع أناس عاشوا في المكان نفسه وعاشوا الأمور نفسها، وهذا كان ما وجدناه عند الآخر في مكان آخر من العالم، يشعر بالأمور نفسها وتشبه أساليبنا في الحياة بعضها. وبالتالي هذا كان الطريق المشترك: أينما كنا في العالم، الخوف في داخلنا ولا نفهمه وما زال في داخلنا.

    سارة : إذا أردنا تلخيص فكرة "ل-عيون"، فإنها محاولة لبناء مساحة مشتركة لنتواصل، لنبني جسوراً تخلق ذاكرة جمعية من ذاكرات فردية لنخرج من النمطية التي فرضت علينا. هناك الكثير من القصص في الشتات السوري. سردية الشتات في فرنسا تختلف عن تلك في ألمانيا أو تركيا أو لبنان حتى الصين. علينا توحيد السردية مع احترام اختلافاتنا، وأن نخلق ذاكرة مشتركة نتحدى فيها فكرة الشتات بطريقة فنية، ونعمل على مشاريع فنية توثيقية مشتركة نتخطى فيها الحدود بشكل افتراضي ونتبادل الخبرات. ما زلنا لم نستطع تحقيق هذه الأمور، لكن هذه هي أحلامنا وهي قابلة للتحقيق.

آفاق: تفتح ثنائية الداخل والشتات السوريَين باب للانتقال من الشخصي إلى العام. كيف تفهمون هذا التقاطع في سوريا كمصورين وثائقيين؟

    أمين: خلال السنوات 12 التي مرّت، أصبح هناك الشخص البطل الذي يخبر الحكاية عن سوريا الجريحة وعن الموتى. لكن ما يحصل في سوريا معروف وما من شيء لم يُحكَ. التطرق إلى هذه الأشياء لا يفيد، وصدقاً لم يعد هناك جدوى من إعادة سرد نفس الرواية المتكررة. لكن، بشكل شخصي، أرى الأمور الشخصية والحميمية أصدق طريقة لنخبر عن الحالة التي نعيشها في سوريا. تفاصيل صغيرة تخبر عنّا بالفعل قصتنا بعيداً عن العناوين الكبيرة التي لم يعد يتقبّل أحد سماعها.

    سارة: أشعر أنّ هناك طرقاً مختلفة للاشتباك مع الوضع السياسي في سوريا. من ناحية السردية الصورية، هناك أمور كثيرة أثرت فينا، مثل الحالة السياسية قبل 2011، كقيود حمل الكاميرا في الشارع. ثم انتشرت صور الحرب ومع أهميتها إلا أنه ارتبط اسم سوريا فيها. إن كتبنا سوريا مثلاً على غوغل، ستكون الحرب هي ما يظهر لنا. بعدها واجهنا واقع المنفى والشتات . وفي هذه الحالة أيضاً، فرض علينا الغرب صورة نمطية لا يقبل أن نخرج منها وهي صورة "الضحية" و"اللاجئ". هنا نحتاج أن نجد طرقاً بديلة لتصوير قصصنا. نحن، السوريين، يجب أن نتحدّث عن الشخصي لنجد ذاكرة جماعيّة.

    أقول لأمين إنك أعطيتني شيئًا لم يعطني إياه أحد، كقوله لي "أنت لك وجود هنا". وفي الوقت نفسه، هناك حالة تبادل في الكلام عما نعيشه. الآن ينصب تركيزي على المشاريع المشتركة، مثل مشروعنا أنا وأمين "أغنيتان من الشتات". نحاول أيضاً خلق رؤية أوسع لكيفية تطوير هذه الفكرة التشاركية للعمل على مشاريع مشتركة ضمن "ل-عيون"، مع انطلاقة المنصة أولًا لتجنب الشعور بالوحدة وضمن واقع الشتات، حيث نعيش هذه التجربة بشكل فردي، ولكن نتشارك أيضاً جميعاً هذه التجارب التي تعكس واقعاً اجتماعياً. ولهذا علينا أن نكمل معًا.