4 / 3 / 2024
لقاء مع: دانا عبّاس من رواق، مركز المعمار الشعبي
أجرت المقابلة: رنا قبيسي، مقابلة شخصية مسجّلة عبر Zoom ومفرّغة كتبةً
المكان والزمان: كانون الثاي/يناير 2024، فلسطين
رنا قبيسي:
مشروع "الخريطة المغيّبة" يبحث في التاريخ الخفي لريف القدس، من خلال اختبار موضوعات/ثيمات ومفاهيم رسم الخرائط والخرائط المضادة. كيف أثّر العمل على الخريطة المغيّبة على عمل رواق في ريف القدس؟ وبشكل أعمّ، كيف ترين مساهمة الفنون في الحفاظ على التراث؟
دانا عبّاس:
بدايةً، كلّ فكرة مشروع الخريطة المغيّبة، عندما تقدّمنا به، كانت مبنيّة على أبحاث سابقة بدأتها رواق ، وبشكلٍ أساسيّ تجربة كنّا قد بدأناها في ريف القدس، وهو المشروع الذي نعمل عليه حاليّاً والذي يسمّى “The Life Jacket” أو "طوق النجاة" حيث نعمل داخل ريف القدس من أجل إعادة إحيائه مجتمعيّاً وثقافيّاً وتاريخيّاً ومدنيّاً. ولكنّ الوضع الجيوسياسي، خصوصاً في قرى القدس التي قُسّمت بسبب جدار الفصل العنصري، كان تحدّياً كبيراً.
فكرة الخريطة المغيّبة أتت من هنا، فالخريطة الموجودة حاليّاً لا تمثّل شيئاً من تاريخ القدس، بل تجزّئه وتحوّله لمجتمعات صغيرة قاصرة، غير قادرة حتّى على أن تعيش بالطريقة التي تتناسب مع هذه الجغرافيا الممتدّة. ففي الخريطة المغيّبة، يجب علينا الأخذ بالاعتبار كلّ الإمكانات المغيّبة في داخل هذه القطعة الجغرافيّة وأن نعيد توثيقها، رسمها، ومشاركتها، وأن نفكّر كيف لها أن تفيد المجتمعات مستقبليّاً.
الأمر الأساسي كان عملنا من خلال الفنون وإيماننا في الفنّ كأداة يمكنها أن تطرح أسئلة مختلفة وأن تفتح طرقاً مغايرة لكيفيّة تناولنا مواضيع الجغرافيا والمجتمع والتراث.
الدعوة العامة مع عدّة فنّانين وكلّ البحث السابق الذي عملنا عليه في رواق على ريف القدس من الخرائط، والتوثيق، والمسوحات، والمقابلات، والمقابلات الميدانيّة، وحتّى تجارب الترميم وإعادة الإحياء، والشراكات مع مؤسّسات، سمحوا لنا بفتح الباب أمام فنّانين من فلسطين بشكل خاصّ. كان شرطنا أن يكونوا قادرين على الوصول لهذه القطعة الجغرافيّة وأن يعملوا فيها، معتبرين أن ريف القدس منطقة مفتوحة لهم سواء على الجانب المحتلّ أو على الجانب الذي يقع تحت سيادة السلطة الفلسطينيّة، أي على جانبي الجدار. بالتالي، دخل الفنّانون على ثلاث مناطق مختلفة: قرية بيت حنينا قرية الجيب، وقرية قلنديا.
كان من المهمّ بالنسبة لنا أن نترك الحرية للفنّانين في تناول هذه المناطق أو حتّى إعادة تعريف مفهوم الخريطة من خلال أدواتهم الخاصّة وفهمهم الخاصّ لهذه الجغرافيّات. كلّ الأبحاث التي تمّت وكلّ المداخلات الفنّيّة التي عُمل عليها وكلّ الشبكات التي تكوّنت خلال هذا المشروع هي أساسيّة في مشروعنا لإحياء ريف القدس، ونحن نبني ونعمل عليها كما سمحت هذه الأبحاث والمقاربة لنا أن نفتح مواضيع كنّا كباحثين ومعماريّين ننظر إلى القشور فيها، لكنّ الآن بعدما أتيحت لنا الفرصة للغوص في أعماقها، تغيّرت كلّ نظرتنا لمنطقة ريف القدس وأتاحت لنا علاقات جديدة حول كيفية استعادة هذه المنطقة وهذه المجتمعات صلتها مع تراثها وتاريخها وحتّى علاقاتها ببعضها البعض.
ر.ق:
هل يمكنكِ أن تخبرينا المزيد عن عملية رسم خرائط الغياب نفسها، خاصة فيما يتعلق بوادي بيت حنينا؟ ما هي الشبكات الخفية التي كشفت عنها هذه العملية؟ وهل تخططون للاستفادة منها لتوليد الوعي حول هذه الرواية البديلة؟ إذا نعم، كيف؟
د.ع:
مشروع بيت حنينا كما ذكرت في السابق، كان واحداً من ثلاثة مشاريع. ما يميّز هذا المشروع هو اضطراره للتعامل مع قرية انقسمت من الوسط بسبب الجدار. بالتالي يمكن اعتبارها حالة متطرّفة، مقابل إحاطة بلدة قلنديا بالجدار من أربع جهات والجيب من ثلاث. كل الفكرة بإعادة بناء خريطة للوادي بدأت في فترة كورونا لمجموعة تدعى "البلوك" (The Block)، وهي مجموعة من ثلاثة فنّانين مقدسيّين معماريّين يقطنون في بيت حنينا. دفع الحجر الصحّي بهؤلاء الفنانين للخروج والتنزّه في الأماكن المفتوحة مثل وادي بيت حنينا. من خلال نزهاتهم اكتشفوا تواجد رعيان وشباب داخل الوادي تقريباً كلّ يوم يلهون باللعب في التراكتورات (آليات صغيرة ررباعية الدفع)، كما لاحظوا آثار لأقدام المواشي. ولكنهم أيضاً اكتشفوا وجود بنى تحتيّة فظيعة للمستوطنات الإسرائيلية السبع القائمة على أراضي أهالي بيت حنينا، بما في ذلك البنية التحتيّة من مجاري وتمديدات وخطوط طرق إلتفافيّة خدماتيّة، بالنسبة إليهم، أصبح السؤال الأساسي هو كيف نستعيد الوادي كفلسطنيين وكأهالي بلدة بيت حنينا؟ وكيف نستعيد نظرتنا تجاه الوادي باعتباره مساحة تمكّننا من تلحيم هذه الجغرافيّة بين الجهتين المنقسمتين، أي بيت حنينا القديمة الموجودة خلف الجدار والجهة الجديدة؟ وكيف نستعيد العلاقة بين أهالي بيت حنينا والوادي؟ الطريقة التي اعتمدها الفنانون كانت مستوحاة من مذكّرات الرحّالة الإستشراقيّين الذين توفّرت لديهم المساحة لاستكشاف جغرافيّة بلادنا والتي أدّت بهم إلى سردها ووصفها وتخيّلها بحسب سياقاتهم وخلفيّاتهم. كانت مذكّراتهم متألفة من رسومات متخيّلة يتم إسقاطها لوصف هذه الجغرافيّة. حاولت المجموعة القيام بشيء مشابه كنوع من ردّ فعل إيجابي مستوحى من هذا الأسلوب المعتمد من قبل الرحالة لترسيم الجغرافيا. بالتالي بدأ الفنانون بزيارة الوادي بشكل أسبوعي وكتابة مذكّراتهم من داخله، بالإضافة إلى رسم اسكتشات وتدوين ملاحظات وحفظ تسجيلات صوتيّة وفيديوهات.
تمكّن الفنانون من دخول الوادي بفضل راعٍ من الوادي، كان بمثابة مرشد لهم، يعرّفهم على الأماكن وأسمائها المختلفة. سمحت لهم هذه المشاوير الدورية بمقابلة أهالي بيت حنينا والتعرّف على قصص الوادي من خلالهم. من بين هؤلاء الأشخاص أستاذ التاريخ عبدالله دعيس، روائي وكاتب قصص خياليّة، عاش في جهتيّ القرية واضطر للجوء إلى القدس بعد إنشاء الجدار. أخبرهم عن وادي الصرّار، وبيت حنينا جزء منه، كمصدر أساسيّ للمياه في فلسطين، خاصة في الشتاء، تعتمد عليه الزراعة الموسمية بشكل كبير علماً أن الأراضي الشرقية من بيت حنينا، والذي تسيطر عليها البلدية الإسرائيلية حالياً، كانت مخصصة لزراعة القمح.
فكان هذا المكان مهم جداً حتى للأطفال للهو والسباحة فيه وتمشية القوارب. بدت خرائط الرحالة إذاً تمثيلاً مصوّراً مطابقاً للرّحلات التي كانوا يمشونها. إذ قاموا برحلات مشي في 11مسار على مدار سنة كاملة، لكلّ مسار إسم ووصف يوثّق جزئيّة من تجربتهم الشخصيّة وجزئيّة من تاريخ الوادي نفسه.
تناول البحث إذاً شقّي الوادي، إذ عادوا إلى تاريخ بيت حنينا، البلدة القديمة وارتباط أهل البلدة القديمة بالوادي، وأبرز المسارات التي كانوا يسلكونها هناك للمرور للشق الثاني وغيرها من الأمور.
هذه هي إذاً بشكل أساسي الخريطة التي تمكّنوا من رسمها، وتتألف من 11 مخططًا. ما يميّزها أّنها متاحة لكل محبّي المشي، يمكنهم الاستعانة بها للمشي في الوادي وقراءة السرديات المرتبطة به وبناء سردياتهم الشخصية ايضاً.
ر.ق:
اعتمدتم في رواق منهج البحث التصاعدي الذي ينظر إلى أفراد المجتمع على أنهم أصحاب المعرفة وشركاء في إنتاج المعرفة. كيف تقيمين هذا النهج، خاصة عند تطبيقه في فلسطين وسياقها الخاص؟ كيف توصّفين أهمية هذه المقاربات الشعبية التعاونية في هذا السياق؟ وما توقعاتكِ حول المساعي المستقبلية لرواق والمؤسسات الأخرى في هذا الصدد؟
د.ع:
برأيي عندما نتحدّث عن سياق العمل الثقافي في قطاع التراث بالذات، لا يمكن العمل من دون الناس، لأنّك تكون بهذا قد سلخت نفسك عن مفهوم التراث أصلاً. فإن لم تعمل مع منتجي هذا التراث، فستكون في النهاية شخصاً ينظر إلى الأمور من سطحها. منذ البداية قامت رواق ببناء معارفها، بما في ذلك البناء التقليدي وكل قيمه وأخلاقياته، من خلال عملنا مع الناس على الأرض. وقد انعكس هذا النهج على عملنا الفيزيائي من ترميم وإعادة إعمار، وعلى برنامجنا الثقافي.
في برنامجنا الثقافي بالذات، منذ بداية أي مشروع، نبدأ بالعمل على الأرض، بالانغماس مع المجتمع. مثلاً، إن كنت أعمل في قرية الجيب، على كلّ الأهالي هناك أن يكونوا على علم بأنّ دانا هي معماريّة رواق هناك. لذلك يجب أن نكون جزءاً من هذا المجتمع.
في النهاية، رواق مؤسسة تعمل لأجل هذه المجتمعات، حيث حضورنا مؤقّتٌ. قد نعمل مثلاً عشر سنوات في مكان ونخرج منه. من سيكمل إذاً المشروع الذي بدأناه؟ من سيستمرّ في إعادة الإحياء؟ المجتمعات نفسها، أصحاب الأملاك، والمؤسسات، والبلديّات والجيران والمدارس. لذا من الأساسيّ أن تتبنّى هذه الفئات، على اختلافها، أي مشروع منذ البداية.
تتبلور هذه المنهجيّة في برنامجنا الثقافي بالطريقة القصوى، لأن البرنامج الثقافي لن ينجح إذا لم يصل للناس ولم تكن مخرجاته قريبة منهم. مشروعنا الذي عملنا عليه بالذات في ريف القدس مع آفاق، الخريطة المغيّبة، كانت فكرته مبنية على إعادة رسم خرائط الناس. نريد الابتعاد عن كلّ الخرائط الرسميّة، حتّى خرائط البلديّات، والتي تنظر في مساحات البناء والمناطق الخضراء، وتصنّف الأراضي. كانت الفكرة أن ننظر إلى هذه الجغرافيا فقط من خلال الطريقة التي عرفتها بها الناس.
الجزئية الثانية المهمة هي أننا نقوم برسم خريطة تتعدى ما هو فيزيائي. تتعدى هذه الخرائط تمثيل الطبوغرافيا أوالمباني أو أماكن الأشجار، بل نقوم أيضا بعمل خرائط لممارسات، لحرف، لمسارات مياه أو مشيات رعيان، لطلاب مدارس. إذ يوجد جزء كبير جدّاً منها يكون عبارة عن تحركات، أو تدفقات تعبّر عن الحياة. فالجغرافيا التي لا يكون فيها تدفّق هي جغرافيا صامتة بلا حياة. إذاً هذه هي الخرائط التي نعمل عليها، لذلك لا يمكننا أن نعمل في المكان إلا بشكل تصاعدي. كانت طبيعة العمل مفتوحة، كنّا نستعين بالكتب أحياناً والناس لاحقاً، كنّا نقوم بالمشي مع الناس، ونجلس مع مؤرخين. توصّلنا لمرحلة الانغماس في الجغرافيا نفسها. مثلاً رغد سقف الحيط عندما قامت بمشروعها حول تاريخ حرفة صناعة الفخار، قامت بتعقب الأماكن التي يوجد فيها الطين وعملت على استعادة وصفاته المحلية.
بالنسبة إلى الجزئية الثانية من السؤال، معظم المؤسسات الثقافية الفلسطينية تأسست أصلاً بعد أن رأى مجتمعنا فراغاً في مكان ما فبدأ يمأسس ذاته لسد هذا الفراغ. رواق هي نتاج هذه المرحلة، مرحلة بداية التسعينات التي أشرفت فيها الانتفاضة الأولى على الانتهاء، إلا أن زخمها كان لا يزال في قلوب الناس. بدأت إذاً مبادراتهم في التمأسس. هكذا تحولت المبادرات التي لها علاقة بالدبكة والترميم والموسيقى إلى مؤسسات. ولذلك فان آلية العمل المعتمدة في مشروع "الخريطة المغيبة" هي منهجية تطمح الى أن تشكل امتداد للتجربة الفلسطينية في العمل الثقافي المجتمعي وان تكون نموذجاً لآليات وكيفيات جديدة للعمل من خلال الاهالي ومعهم.
من الأكيد أن التغيرات التي كانت تحدث في سياق التمويل شكّلت تحدياً كبيراً لنا. فعندما بدأت ثقافة التمويل الخارجي بالانتشار، بدأت مشاريع غير ذات صلة بالسقوط علينا من فوق، كما أصبح هناك تحديداً للفئات المستهدفة بطريقة معيّنة تتناسب وأجندات البلدان المانحة والممولين. كان التحدي هو أن نبحث عن أنفسنا وسط هذا الواقع. كنا نقع في منطقة معينة مرسومة من الممولين أحياناً، لنستدرك لاحقاً أن علينا فرض أجندتنا والعمل على طريقتنا وبأدواتنا، حتى أصبح عند رواق الثقة الكاملة في فرض مقارباته الخاصّة على أي مموّل. في عملنا ننظر للمجتمعات كأهالي وكشركاء أساسيين. فنحن لا ننظر الى المجتمع كفئات منعزلة عن بعضها البعض، من نساء وأطفال وغيرهم، بل كمجتمع واحد، كحي كامل (neighborhood).
لهذا شكّلت لنا منحة مثل آفاق مساحة للتجريب تمكّنا من خلالها أن نزيد من حدود هذا المنحى في العمل وأن نفتحه أمام ممارسين من خلفيات مختلفة وبطرق أكثر مرونة وانفتاحاً. حتّى نحن كقيّمين ضمن هذا المشروع، خضنا طوال الوقت نقاشاً مع الفنانين، لتطوير الأدوات التي يحتاجونها ومعرفة ما هي الطريقة التي تناسب مشروع كل منهم للعمل. لم ترتبط آلية العمل بمواعيد نهائية ومخرجات متوقعة، كنا فقط ننظر إلى تطوّر المشروع وما يطرحه من أسئلة ويتناوله من معارف كمقياس للانجاز. إذ نحن نعلم مدى صعوبة المكونات التي يتعاملون معها لأنها معرفة جديدة لم يسبق توثيقها.
ر.ق:
هل (أو ما) يمكن للعمل البحثي الذي طورته رواق أن يقدم شيئاً بالمقابل للمجتمعات التي عملتم معها، فلا تقتصر العلاقة على الأخذ منها فحسب؟
د.ع:
منذ البداية، عندما تم عمل المشروع بالذات مع آفاق، لم ننظر إلى العلاقة كأخذ وعطاء إنّما كدورة من المعرفة تتقاطع في دوائر مختلفة. فالمعلومات التي كنا نستقيها من هنا، كانت تصبّ هنا وفي مواقع ثانية. أتذكر حتى عندما أنشأنا رسوماً بيانية بعد انتهاء المشروع لندرس دورة الإنتاج المعرفي، كان العمل تدفقاً للمعرفة يلمس فئات متعددة. بالبداية، كانت لدينا مرحلة بحث مكتبي لتأطير البحوث ومن بعدها المرحلة الجزئية التي تقتضي النزول إلى مواقع البحث والتواصل مع الأهالي. مرحلة البحث المكتبي كانت مهمة لتأطير الأسباب وراء اختيار منطقة أو جغرافيا ما، والأشياء التي قرؤوها عنها. في مرحلة لاحقة، اكتملت خلفية المشروع بعدما قاموا بتصفية كل المعارف التي يحتاجونها من التاريخ الشفوي، وخلقوا أدوات لإعادة ربط تلك الجغرافيا. بعدها، فتحت رواق شبكاتها في القرى من أصدقاء ومعارف، وبدأ الفنانون يزورونهم في بيوتهم أو التنزه معهم وإجراء المقابلات. كل هذه المعارف بدأت تتحول لورشات أو تدخلات داخل تلك الأماكن. كل فكرة الورش أو التدخلات هي اللحظة التي تتحوّل فيها كل هذه المعارف إلى معارف مشتركة، لملكية عامة ومشاع للناس.
مثلاً، بعد أن عملت رغد على الجزء البحثي من مشروعها بدأت في الجزء التجريبي، أي إعادة إحياء وصفات عمل الفخار التقليدية. كل الجيل الذي كان يعمل بهذه الوصفة في الفخار توفي للأسف. آخر "فخارجية" توفيت في 2011. لكن أحفادها وجيرانها موجودون. ما قامت به رغد أنها نادت الأحفاد والجيران ونفذت ورشة عامة يمكن لأي أحد من فلسطين أن يشارك فيها. بعض الناس حتى من الناصرة والقدس ورام الله ونابلس سجّلوا فيها. وبدأنا مع أهل هذه الفخارجية الراحلة، يتذكر كل واحد منهم جزئية من عملها. بعضهم تذكر كيف كانت تطحن المواد وتضعها على بعضها. بعضهم تذكر كيف كانت تشكّل الفخار والبعض الآخر تذكر المشيات التي كانت تأخذ فيها أحفادها لتجميع الحجارة والطين. فجأة، أصبحت الوصفة مثل puzzle يتم جمعه من كل الناس. وفي الوقت نفسه، جربناها مع خزّاف وفخارجيين يملكون حساً مشتركاً يخص المهنة. بدأوا يحكوا لنا الطريقة التي عملت بها الراحلة أو لم تعمل، أو المواد التي كانت موجودة منذ زمن واختفت. أصبحت هذه المعارف وسيلة لمعرفة لماذا تغيّر شكل الحرفة كحرفة وانتقلت لأسلوب جديد في التصنيع. حتى الاحتلال نفسه كان له أثر باختفاء الحرف؛ عندما يبنى الجدار، أو حين يصبح جبل المطاين، وهو مصدر الطين الأساسي، جزءاً من مستوطنة لا يمكن للناس أن تدخلها. بالتالي كل هذا التراث سيغيب ويختفي. في النهاية تكتشف أن الحرفة هي جغرافيا، هي خطوط إنتاج وبيع، هي معارف محلية تحتاج نوعاً من التواصل الدائم للإبقاء على تطورها وتحتاج إلى مكان جغرافي لجلب المواد وصنعها وجمعها. فمع الحالة السياسية التي يعيشها شعبنا، والجغرافيا التي تتم سرقتها منا وعدم وصولنا لمواردنا، اختفت الكثير من الحرف. من السطحي أن نقول أن الناس لم تعد تعمل بيديها أو أنه لم يكن هناك توثيق لحرفنا، إنما من الضروري أن ننظر إلى 75 سنة من المحو للجغرافيا وكل ما يربط الإنسان بها.
ر.ق:
نتائج البحث لا تظهر حالياً في النتاج الفني. هل تخططون لتسليط الضوء على المعرفة الناتجة عن البحث (المقابلات والتوثيق ورسم خرائط الذكريات، وما إلى ذلك) وإيصالها إلى جماهير أوسع؟
د.ع:
كان لدينا في المشروع طريقتان لتوثيق البحث وفتحه: الطريقة الأولى الكتاب الذي أصبح جاهزًا "ريف بلا مدينة" ويمكن شراؤه من على موقع "رواق"، ويحوي توثيق الأبحاث والأعمال الفنية لنرى كلّ المشاريع وعلاقتها بالجغرافيا الخاصة بها. ساهم في كتابة هذه النصوص الفنانون والقيّمون، كمواد بحثية متصلة بنطاق عمل المجموعات. والطريقة الثانية هي الموقع الالكتروني الذي يحتوي على الخرائط التي أنتجها الفنانون ويقدم أرشفة جيدة لهذه التجارب. لذا نعمل حالياً على تحديث كامل لموقع رواق الرسمي وسيتم ربط موقع المشروع به، ونأمل تكون هذه المواقع متاحة في بداية هذه السنة. نأمل أيضاً أن يلهم هذا الموقع ممارسين آخرين بأن يبنوا على هذا النوع من المعارف. يحوي الموقع الالكتروني الكثير من التسجيلات الصوتيّة لكن التاريخ الشفهيّ يحتاج إلى الكثير من التنقيح لأنّ المقابلات التي أجريت واسعة جداً يدخل فيها الخاص والعام، ولكن استطعنا وضع مجموعة لا بأس بها من التسجيلات المرتبطة بالبحث.
ر.ق:
يساهم هذا المشروع في نقاش أوسع حول الرسم المضاد للخرائط. كيف تتصورين العمل واستمراريته في ظل الوضع الراهن في فلسطين؟ هل تخططون لاستخدام الخرائط المضادة كأداة للحفاظ على المدن في فلسطين؟
د.ع:
أظنّ أنّنا مدركون أنّ الخرائط المضادّة لها أشكال كثيرة. هناك الكثير من مجموعات الhiking تحاول إعادة الحضور الفيزيائي للفلسطيني للحديث عن جغرافيته ويعيدون وضع خرائط للجذور وينظرون إلى البقاع الأرضية كجزء لا يتجزّأ من تأصيلنا في هذه الجغرافيات، خصوصاً أنّ جزءًا كبيراً من هذه الأراضي إمّا أخذت للمستوطنات وإمّا تعرّضت للمصادرة من قبل الاحتلال ، وبالتالي كان تحدياً أن نعيد النظر إليها كجزء من الأراضي التابعة لنا. ننظر إلى عملنا على أنّه ليس بعيداً عن إعادة رسم الخرائط المضادة التي تحمل نوعاً من المقاومة لكلّ محاولات تحويل الخارطة لأداة لسلب الفلسطيني جغرافيته. الخرائط الرسمية التي تضعها مؤسسات حقوق الإنسان كـ"أوتشا" وغيرها هي خرائط تسلّط الضوء على جزئيّة واحدة من الصراع الذي يعيشه الفلسطيني فعلياً على الأرض، وتحوّل الجغرافيا أيضاً إلى أمر تجريديّ غير حسّي. لكن الجغرافيا ليست تجريدية إنما هي حياة كاملة، لذا من المهم جداً بالنسبة إلينا أن نضع خرائط مضادّة وليس فقط أن نعيد رسم خطوط على الورق. ولذلك نرى أنّ عملنا جزءٌ لا يتجزّأ من الممارسات الحالية التي تعمل على إعادة ترسيم الخرائط والتي تحاول نقل واقع مختلف لوجود الفلسطيني على أرضه.
ركزنا على الفلاح وعلى القرية أكثر من المدينة التي تعنى جهات كثيرة بها. إذ يحوي الريف نحو 50% من التراث المعماريّ وأكثر التراث اللامادي الفلسطيني من أغانٍ وموسيقى.
الأمر الثاني الذي جعلنا نركّز على الريف والفلاحين أنّ أهل المدن لديهم ميل لأن يكتبوا عن أنفسهم وأن يوثّقوا. أهل يافا كتبوا وأهل القدس يكتبون، والكثير من مؤرّخينا الفلسطينيين هم من أصول مدنيّة وكتبوا عن مدنهم والحياة الثقافية فيها. ولكن قليلة هي الأسماء التي وثّقت الريف والحياة الثقافية فيه. طبعاً بعد النكبة برز نوع من التوثيق المرعب للريف والقرية، ولكنه كان كحمى للحفاظ على ما تبقّى لنا من هذه الذاكرة. برأينا نحن أمام مرحلة تاريخية مختلفة نتطلع فيها إلى الأمام وليس فقط للوراء. وكم هي مهمة هذه الممارسات سواء من توثيق أو إعادة تخيّل للجغرافيا. كنا نتحدّث إلى أي مدى الخيال مهمّ. لأننا إذا لم نستطع، نحن الفلسطينيين، أن نتخيّل ماذا نريد للأمام، ستكون هذه المرحلة صعبة لنا جداً لنوجّه أنفسنا ونجد بوصلتنا.
كنّا نتحدث طوال الوقت أننا نريد أن نتخيل أن هذا الجدار غير موجود، لأننا نتخيّل في مكان ما في مستقبلنا أنّ نظام الاحتلال هو نظام يتفكّك ويتحلّل، وهذه الجغرافيا ستعود للتواصل. وإذا لم نتدارك منذ الآن ألّا تزيد الهوّة بين هذه الجغرافيا سنشعر وكأنّنا غرباء وبعيدون عن بعضنا البعض. المرحلة التي نحن فيها مرحلة لا زال موجوداً فيها تاريخ الأجداد: هناك جيل عاش النكبة، وهناك جيلنا الذي عاش الانتفاضات المختلفة، ونعيش الآن أسوأ مرحلة من مراحل التاريخ في ظل الابادة في غزة. هذه التجارب إذا لم تحمل الأمل للجيل الذي سيأتي بعدنا، ويرى كيف نحاول كلّ الوقت لحم هذه الجغرافيا ونحاول صدّ من يقول أنّ الستاتيكو الذي نحن فيه هو الوضع الراهن نكون ظلمنا أنفسنا وظلمنا الأجيال المقبلة. كلّ ممارساتنا في التراث الثقافي وخصوصاً في إعادة الإحياء وإعادة الترميم هي حديث عن المستقبل وعن الحياة المقبلة التي سترتبط بكلّ هذا الإرث وكلّ هذا التاريخ. بالنسبة إلينا الترميم الذي يذهب يداً بيد مع نقل المعرفة هو الطريقة الوحيدة لنجاح إعادة إحياء التراث في فلسطين في هذه الظروف الصعبة.
أضف أنني كنت دائماً أشعر أن التاريخ ذكوري في بلادنا. لكن عندما تدخلين إلى الريف الفلسطيني تعرفين إلى أيّ مدى كان التاريخ نسائياً. بالنسبة إلينا كان مبهراً كم المعارف التي بنيناها مع النساء بكلّ أجيالهنّ من الكبار إلى الصغار. كان ملفتاً لنا مدى تواضعهن في مشاركة معارفهن الخاصة، وهو ما لا نجده عند الرجال الذين يميلون الى مشاركة التاريخ العام. نساؤنا، مع تواضعهن وانخراطهنّ بتفاصيل الحياة، أصبحوا مصدر معرفة لا يُشبع منه. وقد فتحت المقابلات التي أجريناها أعيننا على هذا الأمر. حرفة الفخار هي حرفة نسائيّة بامتياز في الأرياف النسائيّة، والمعرفة في الجغرافيا الزراعيّة هي معرفة نسائيّة جدًّا. حين نتحدث عن تاريخ المدينة نقول أنه تاريخ فيه نوع من الهيمنة الذكوريّة، أمّا تاريخ الريف فهو تاريخ من دون شكّ مبنيّ على المعرفة النسائية ويستحق أن تكون هناك هيمنة معرفية نسائية فيه. يتفق الجميع على أنّ هناك تاريخًا منسياً هناك ومن الضروري أن يكون لدينا حرص بأن نسمع ونعطي المساحة للنساء بأن يتحدّثن عن هذا التاريخ.
عن المشروع
يُعدّ هذا المشروع بحث حول التاريخ الخفي لريف القدس، من خلال اختبار موضوعات/ثيمات ومفاهيم رسم الخرائط ورسم الخرائط المضادة. يهدف المشروع إلى تحرير تاريخ المدينة من الإسقاط الاستعماري، والمخيّلة الوطنية من الأيقونات والرموز، من خلال إدراج المجتمعات الزراعيّة في ريف القدس في صلب عمليّة صنع التاريخ.
على مدار عام واحد، فتحت رواق باب البحث حول ريف القدس من خلال منصّة على الإنترنت كانت بمثابة خريطة مضادة/ خريطة معاكسة. كما جرى رفد هذه المنصة بالمُدخلات المنبثقة من المبادرات الإبداعيّة الصادرة عن مختلف التخصّصات- الفنانين/ات والمهندسين/ات المعماريين/ات والأنثروبولوجيين/ات، المدعوّين/ات إلى بلورة تدخّلاتهم القائمة على الأبحاث في منطقة القدس. ويعتزم مركز رواق، باعتباره بحثاً عملياً يُنظَر إليه على أنه أداة للتعبير عن الرأي، فتح هذه المنصة أمام الجمهور الأوسع من المقدسيّين/ات والمساهمين/ات الآخرين/ات، بغية توسيع نطاق جغرافية الخريطة.
عن رواق
منذ عام 1991، أدركت رواق التعقيدات الصعبة المتمثلة في الحفاظ على الذاكرة الجماعية الفلسطينية من خلال المشاريع التي تعمل على توثيق وترميم مواقع التراث المعماري في جميع أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.
في سنة 1994، بدأت رواق مشروعاً ضخماً لتسجيل المباني التاريخيّة على امتداد فلسطين. يتناول مشروع السجلّ واحداً من مكوّنات الموروث الثقافيّ الفلسطينيّ الأكثر تعرّضاً للخطر، ويحيط بالموروث المعماريّ والثقافيّ والطبيعيّ للضفّة الغربيّة (شاملاً القدس الشرقيّة) وقطاع غزّة. يُعتبر سجلّ رواق للمباني التاريخيّة خطوة أولى في عمليّة طويلة من حراسة وحماية الموروث الثقافيّ والطبيعيّ الفلسطينيّ.
لا تقتصر مشاريع رواق على خلق فرص العمل أو ترميم الحجارة والهياكل التاريخية فحسب، بل تهدف أيضاً إلى رفع مستوى الوعي حول أهمية التراث الثقافي كركيزة للهوية الفلسطينية والذاكرة الجماعية. يتعلق الأمر أيضاً بإيجاد مساحة مناسبة وآمنة للحياة والعمل، وبإنتاج المعرفة ونشرها.