اقترح مشروعك "تهافت" استجابة مباشرة لتفكُّك المنظومة (فكرة الدمار والانحلال التي شكَّلت ليبيا من خلال الحرب الأهلية وعدم الاستقرار المدني) التي لا تزال ليبيا تواجهها ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، ومن خلال معرض في مكان مفتوح، أكَّدت أيضاً على حق مدينة بنغازي، وحق الحضور في الأماكن العامة. يهدف "تهافت" إلى استكشاف الأسس الاجتماعية والسياسية وتجربة الأفكار الجديدة، والإمكانيات والفرص التي تكمن في هذا التناقض، وكيفية استخدامه في الفن النظري والأغراض المعمارية. هل لك أن تخبرنا المزيد عن المشروع، وهل حقق أهدافه؟
معنى التهافت باللغة العربية هو "عدم الاتساق، أو التفكك"؛ أردنا إقامة برنامج من أجل الإعداد لمعرض - يُعتبر برنامجاً لأنه بدأ كورشة عمل، وتم خلاله الإشراف على أعمال 15 مشاركاً - وتوجيههم نحو بعض القضايا الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية في ليبيا والتعامل معها بشكل نقدي. كنا نحاول عدم فرض قيود حدود، لكي لا يقتصر على مشكلة سياسية بعينها، ولكن الأهم هو اتخاذ مواقف نقدية تجاه الفن والتمثيل الفني. استهدفنا ثلاث قضايا رئيسية: القضية الأولى هي الدمار وإعادة الإعمار وتأويلاتهما المُختلفة. على سبيل المثال، إذا كنا نشهد تدميراً للبيئة المعمارية، ونريد إعادة بناء هذه البيئة، فعلينا إدراك ما يحدث بالفعل من تفتُّت في النظام السياسي، والنظام الاجتماعي، والنظام الثقافي، والنظام الاقتصادي، وأن نُحدد مسؤولياتنا كفنانين ومعماريين تجاه ذلك.
أما القضية الثانية فكانت التراث الفكري. نظرنا إلى أعمال كتَّاب ليبيين مثل "الصادق النيهوم"، ودرسنا أيضاً كيف يمكننا إعادة تفسير هذا التراث الفكري لإعادة قراءته من منظور الفوضى والدمار الحاليين؟ ما هي قيمة هذا التراث الفكري في مواجهة هذا التدمير؟ كما نقرأ كتابات الفلاسفة والكُتَّاب والمفكرين الليبيين.
القضية الثالثة كانت الهوية. الهوية موضوع مُتنازع عليه هنا (في بنغازي). يربط بعض الايديولوجيين هنا الهوية بالماضي، بفترة تاريخية علينا الالتزام بتقاليدها، وأن نعيش مثلما كان الليبيون يعيشون في الماضي. يرى أيديولوجيون آخرون أن الهوية يجب أن ترتبط بالحاضر؛ وأن تتفاعل مع اللحظة الراهنة، بغض النظر عن الماضي.
هذه هي الموضوعات الرئيسية. وكان الهدف من المعرض هو تحفيز وتشجيع المعماريين/ات والفنانين/ات الشباب على استهداف قضية حرجة بموقف نقدي، وهو مبادرة من أولى المبادرات في بنغازي؛ ربما سبقتها مبادرتان مشابهتان في طرابلس، لكنها الأولى في بنغازي.
لقد بذلوا قصارى جهدهم بالطبع، وطرحوا أفكارهم في أعمالهم الفنية. كان بعضها أعمالاً فنية فقط، وبعضها الآخر أعمالاً فنية معمارية. أجرينا أيضاً في اليوم الثاني نقاشاً - على سبيل المثال - مع الفنانين والمشاركين والجمهور، لأنه كان مكاناً مفتوحاً. جاء بعض السكان المحليين، وناقشنا هذه القضايا الحرجة بصراحة.
أحد أبعاد "تهافت" هو خلق تفكك إيجابي. هل لك أن تخبرنا أكثر عن ذلك؟
بالرغم من أننا لم نُعلن عن المشروع على هذا النحو، فإن هذه الرؤية قد تكون إحدى القراءات الصحيحة لمضمونه. يتألف "تهافت" من جزأين؛ الأول هو التدمير كما هو، بوصفه عملية تشويه أو اضمحلال للبيئة المعيشة؛ والبيئة المعمارية، أو النظام الاجتماعي، والنظام السياسي، إلخ.
الجزء الآخر هو التفكيك باعتباره سلوكاً نقدياً؛ يخلق عدم اتساق في الأيديولوجيا؛ ونقد الأيديولوجيات السائدة أو هياكل السلطة الاجتماعية والسياسية، على سبيل المثال: قضية المُحرمات، أو الأفكار التقليدية وسلطتها وتطبيقاتها القاسية التي تُمارس ضد النساء.
كما أننا تصوَّرنا التفكك باعتباره نوعاً من زعزعة أفكارنا الثابتة، أو ما يُعتقد أنه قاعدة عامة، أو يتم التعامل معه كشيء راسخ ومستقر. كنا نهدف إلى تقديم نقد من شأنه أن يُزعزع تلك القوة أو ذلك النظام.
أعتقد أن ما أثاره هذا الحدث يتجاوز عدم الاتساق المفاهيمي وعدم الاستقرار، بمعنى أنه أثار العديد من الأسئلة. وكان بعض الأشخاص يشاهدون ما نفعل، فيقولون: "كلَّا، كلَّا، لا تعيدوا بناء أي شيء!"، بسبب كثرة السقالات. لقد اعتقدوا أنه مجرد مشروع إعادة إعمار تقليدي، وأنه سيتجاهل احتياجات السكان المحليين ويخرج بشيء لا يتماشى مع أسلوب المباني وهوِّية المنطقة. لذلك أحدث المشروع عدم استقرار مفاهيمي، وليس عدم استقرار مادي.
كيف كانت مشاركة المجتمع مع "تهافت" على مستوى المعرض الخارجي الذي استمر 3 أيام في منطقة عامة بعد الحرب؟ وكيف تصف تأثير "تهافت" على المديين القصير والطويل؟
كان أغلبية ردود الفعل من الجمهور في معرض الفضاء المفتوح هو شعور بالاستفزاز. لم يكن الأمر مريحاً جداً للجمهور، بسبب العدد الكبير من الأعمدة الحمراء. لقد كان اللون الأحمر متناقضاً للغاية في ذلك السياق الرمادي؛ بسبب الدمار والرُّكام وما إلى ذلك، وأثار العديد من الأسئلة. لماذا هذا اللون؟ لماذا هذا العدد من الأعمدة؟ ولماذا السقالات؟ أثار المشروع العديد من الأسئلة.
علاوة على ذلك، خلال المُحادثات التي جرت مع الجمهور، ناقشنا حرية التعبير، على سبيل المثال، ونقد التقاليد وفكرة الهوية التقليدية. حضر أشخاص من أجيال أكبر سناً، وشاركوا في المناقشة؛ وعموماً لم نتلقَّ ردود أفعال نقدية مباشرة على هذه الموضوعات التي ناقشناها، لكن المشاركين في المناقشة كانوا شغوفين للغاية، وكانوا أيضاً يتساءلون عن نوع الأشياء التي نقوم بتركيبها. ومع ذلك، جاء إلينا شخصان أو ثلاثة – على ما أعتقد - بعد المناقشة، وكانوا مستائين إلى حدٍّ ما، لأننا كنا ننتقد الهوية والتقاليد ونحاول تفكيكها، إضافة إلى محاولة تشجيع حق التعايش بين كل طبقات المجتمع في المدينة، ونركِّز على قضية تمكين المرأة. لذلك أبدى البعض تشككاً في هذه الأفكار، ولقد جاء إلينا رجل عجوز وهو منزعج للغاية واعتبرنا متطرفين وناقدين أكثر من اللازم.
لذا، أعتقد أن التأثير كان في الأساس استفزازاً، لاستعادة الفضاء العام للمدينة؛ الذي هجره المجتمع المدني والقطاع الثقافي. كل الفعاليات تتم في أماكن مغلقة. أردنا الذهاب إلى الأماكن العامة والتعامل مع القضايا العامة بحُرية قدر الإمكان. ولقد شجع المعرض عدداً كبيراً من الناس، فقد رأوا فيه شيئاً متحرراً، وخطوة للأمام، لأنه كان مجرد معرض استمر لمدة 3 أيام، ثم اختفى. ومن بين ردود الفعل المُهمة أيضاً أنه كان ينبغي علينا الحرص على زيادة المشاركة العامة. لأننا لم نروِّج للمشروع بطريقة تجمع أكبر عدد ممكن من الناس، رغم إمكانية الوصول إلى عدد أكبر من السكان المحليين. صحيح أن السكان المحليين حضروا، ولكن ليس بالعدد الكافي مقارنة بالمُشاركين من الفنانين والنُّخبة الثقافية. بشكل عام، كان جميع الأشخاص الذين حضروا حوالي 200 شخص يومياً، أي 600 شخص لمدة 3 أيام، لكن السكان المحليين كانوا 60 تقريباً، وهو ما يُمثل نسبة ضئيلة.
هل تعتقد أن "تهافت" وغيرها من المبادرات يمكن أن تدفع نحو استعادة الفضاء العام وخلق شعور بالانتماء لأهل بنغازي؟
نحاول العمل حالياً لتحقيق ذلك، وأعتقد أن مثل هذه المبادرات يمكن أن تكون آلية للتغيير، إذا تمكَّنا من إشراك صُنّاع القرار والمسؤولين في المناقشة؛ المسؤولين عن إصدار تشريعات أو قوانين تخص تشييد المباني أو بناء/ تطوير المناطق. إنهم بالأساس أشخاص من وزارة التخطيط العمراني في بلدية بنغازي؛ هؤلاء هم صُناع القرار الذين يمتلكون الحق في الموافقة أو الرفض فيما يتعلق ببناء شيء ما. حتى الآن، لا نزال بعيدين عن هؤلاء الناس، ومع ذلك لدينا رؤى وأفكار. لذلك يجب أن نناقشها معهم، وأن ندفع من أجل تطبيق أو تحقيق هذه الأفكار. يمكننا إقناعهم، عندما يتعلق الأمر بالبيئة المعمارية، بالخيار الأفضل. على سبيل المثال، يوجد حالياً مشروع لإعادة بناء "المدينة الرياضية" في بنغازي، الذي يُعد علامة استفهام بالنسبة لنا. المدينة القديمة، التي تضم العديد من المناطق التي هدمتها الحرب، لا تزال على حالها ولم تتم إعادة إعمارها. هذا المشروع شبه التجاري لإعادة إعمار المدينة الرياضية، والذي خصصت له البلدية 1.2 مليون دينار، يُعتبر تخلياً عن المدينة القديمة بالكامل، وعن جميع المناطق السكنية المُدمرة. هذا مجرَّد مثال واحد.
ما يجب أن نفعله هو الدخول معهم في حوار. في المرحلة الأولى من مشروع "تهافت"، أقمنا ورشة عمل، وكنا نطلب من المشاركين تقديم المقترحات أو العمل عليها. كانت المقترحات نقدية بالأساس، ولم يقترحوا إعادة بناء مادي أو مشروع معماري مادي. كانت المُقترحات في مُجملها عبارة عن نقد فني نظري، لكنني أعتقد أنه يمكننا بدلاً من ذلك، في ظروف مختلفة، أن نقيم ورشة عمل لإعداد مشاريع ومقترحات معمارية، ليتم بعد ذلك التواصل مع صُنّاع القرار، وتشجيع المهندسين المعماريين الشباب بشكل أساسي على إيصال أفكارهم بشكل صحيح إلى صُنّاع القرار هؤلاء، على أمل مناقشة وتحقيق هذه الرؤى والأفكار؛ بدلاً من تجاهل المهندسين المعماريين المحليين، والتعاقد مع شركات أجنبية، تماماً كما فعلوا مع مشروع "المدينة الرياضية".
ما هي خططك المستقبلية لمشروع "تهافت"؟ كنت قد تنبأت في البداية بمشروع تهافت 2، و3، وربما 4. هل ما زلت تخطط لنقل المشروع وعملياته الإبداعية إلى مُدن ليبية أخرى؟
نعم بالتأكيد. كانت هذه هي الفكرة الأصلية. بعد إقامة المعرض في بنغازي نفسها، كان من المفترض أن يتم نقله إلى 3 أماكن أخرى؛ كان من المفترض أن ينتقل إلى 3 مواقع و3 أماكن عامة؛ من بينها ساحات عامة شهدت ذات يوم احتجاجات وأحداثاً مهمة تتعلق بالقضايا والشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العامة. ولكن بعد ذلك، وبسبب بعض مشاكل الطقس غير المتوقعة، لم نتمكن من الاستمرار لأكثر من 3 أيام. كنا نقوم بالتجهيزات في اليوم الأول في "ساحة الكيش"، ثم هبَّت رياح قوية أدت إلى التوقف التام. كان علينا أن ننتقل إلى الخطة البديلة، وهي إقامة المعرض في مكان يُسمى "السيلفيوم"، الذي أقمنا فيه المشروع في نهاية المطاف. قررنا الاستمرار لمدة 3 أيام في ذلك المكان، لأنه مُحاط بالمباني، ولم تؤثر الرياح في التركيبات. هذا هو الجزء الأول الذي أُقيم في بنغازي.
نهدف إلى إقامة المعرض في مدن ليبية أخرى. في نفس الوقت، فكرنا في هذا المشروع كنوع من المُختبر، لأنه مُكوَّن من مرحلة ورشة العمل ومرحلة المعرض. نُخطط لإقامته في العاصمة طرابلس، وكذلك في الجنوب، ربما في مدينة "هون"، وبالتالي إقامة الجزأين الثاني والثالث من المشروع. نهدف في هذين الجزأين إلى جعل فكرة المعرض أكثر تحديداً وارتباطاً بالموقع. في طرابلس على سبيل المثال، سوف يناقش بالقطع بعض القضايا الخاصة بسياق المدينة. وإذا أقمنا المعرض في الجنوب، فسوف يناقش بعض القضايا الخاصة بتلك المنطقة. النسخة الأولى من المشروع لم ترتبط بمدينة بنغازي، بل ناقشت قضايا شديدة العمومية. ولكننا أصبحنا نعتقد أنه من الأفضل أن يصبح المشروع أكثر تحديداً وارتباطاً بالمكان، إذا أقمناه في مكان آخر. ولذلك أيضاً، نُفكر بالتأكيد في إقامة نسخة ثانية وثالثة، وربما أكثر.